"الخطر" القادم من حمدين صباحي
مهما كانت نسبة الأصوات التي سيحصل عليها حمدين صباحي في الانتخابات الرئاسية في مصر، فإنه سيشكل "خطراً" على النظام القائم ما بعد الانتخابات، ذلك أنه مرشح لقيادة المعارضة المفتتة حالياً، والتي تفتقر إلى قيادة موحدة. هذا إذا لم يكن هناك مسعى لتدارك هذه الإمكانية من خلال "استيعابه" في منصب وزاري أو آخر، وهو أمر يبدو الآن مستبعداً.
ويدرك صباحي هذا الدور الممكن، إذ صرح خلال الأيام الأخيرة قبل الانتخابات أنه ستكون هناك جولات انتخابية قادمة. ولا يجب قصر معنى هذا التصريح على أنه فقط تمهيد لخسارته المتوقعة ومسعى لوضع جدول أعمال متجدد لحياته السياسية ولمؤيديه، إذ من الواضح أنه يؤشر باتجاه الانتخابات النيابية القادمة والدور الذي سيلعبه في منافسة النظام القديم الذي سيسعي للحصول على أغلبية من المقاعد في هذه الانتخابات.
ولا بد أن نفترض أن النظام القائم في مصر يدرك هذا أيضا، ويدرك أن خوض الانتخابات الرئاسية من قبل صباحي مرتين، حتى لو خسر، يضفي شرعية سياسية ترشحه لهذا الدور خاصة في غياب شخصيات أخرى بارزة لها فرصة لتوحيد المعارضة أو أجزاء كبيرة منها حول قضايا محددة قادمة. هنا توجد قائمة طويلة من المشاكل والمعضلات التي لا يمكن أن تحل بين ليلة وضحاها من قبل من هو في الحكم، أياً كان.
وفي تاريخ الثورات كان هناك دائما مكان ودور لشخصية قيادية حتى لو لم تحظ جميعها بنفس الدور ونفس المكانة. وفي التاريخ الحديث يمكن الإشارة إلى مانديلا وعرفات وكاسترو والخميني وماوتسي تونغ وتشي جيفارا من بين آخرين. وعبد الناصر طبعاً. فقد جرى استحضاره ليس فقط في معترك الحملة الانتخابية وإنما أيضا في ميادين التحرير ومنذ بداية الثورة. لكنه ليس تماماً عبد الناصر الشخصية التاريخية الذي توفي في عام 1970. إن مصير هكذا قادة أن تكون لهم حياة أخرى بعد وفاتهم، فيجري اصطفاء واجتزاء عناصر من تركتهم السياسية لأغراض الحاضر وقضاياه الآنية. هذا هو معنى عرفات اليوم ومعنى صور وملصقات جيفارا، ومعنى عبد الناصر أيضا. ويدرك المصريون بوضوح الانحدار الذي أصابهم وأصاب مصر، أكبر دولة عربية، من جراء القحط القيادي طيلة أربعين عاماً في ظل حكم السادات ومبارك، وإفقارهم المضطرد وتقزيم دور ومكانة مصر عربياً وإفريقياً ودولياً، حتى لو تغيرت المحاور والتحالفات بعد انهيار الإتحاد السوفياتي. نعم، إنه عبد الناصر مجتزأ ومختاراً، ولكن هذا ما يبقى ويحيا في ذاكرة الشعوب وبشكل شخصي أحياناً. فكما قال أحدهم في مقابلة متلفزة: "لولا عبد الناصر لما دخلت الجامعة وتعلمت ولما أصبحت ما أنا عليه الآن."
وفي سياق المنافسة الانتخابية، حاول منظمو حملة المشير السيسي منافسة صباحي على أرضه وفي ملعبه فأظهروا صور السيسي وهو صغير يصافح عبد الناصر، من بين مساعي أخرى في هذا الاتجاه. لكن هذه لعبة خطرة لأن التوقعات من السيسي ستكون كبيرة في كل الأحوال ناهيك عن استحضار تركة عبد الناصر. وقد سعى النظام القديم إلى تغيير جدول الأعمال بعد الثورة وجعل "الاستقرار" الداخلي مطلباً له أولوية على مطالب ميادين التحرير ونجح إلى حد بعيد في ذلك وفي ما أسماه علاء الأسواني "بالسيناريو الروماني"، أي عودة المباركية دون مبارك. وقد يسر هذا وهيأ له إنفراد الإخوان بالحكم، والافتراض الخاطىء والمفتت للثوريين، أن الشرعية السياسية في بداية ثورة تأتي من خلال الانتخابات (1). وقد جرى استخلاص العبر من قبل قيادة حركة النهضة في تونس الأمر الذي مكنهم من التوافق مع المعارضة على الدستور الجديد، كخطوة أولى هامة في طريق بناء النظام السياسي بعد الثورة. هذا بخلاف مصر التي أصبح فيها الدستور مادة إضافية تسهم في الشقاق الداخلي .
ومن الجلي أن السيسي يدرك حجم المشاكل والمعضلات التي ينبغي إيجاد حلول لها، وخاصة بعد إبرازه وتصويره في بعض وسائل الإعلام على أنه القيادي المرجو والمنتظر. وقد حاول خلال حملته الانتخابية إضفاء شيء من الواقعية على توقعات الجمهور العام منه التي قد تكون مغالية، مع الحفاظ على تأييدهم له. فأشار في أكثر من مقابلة أنه يتوقع أنه سيحقق "نتائج" خلال فترة عامين. خيط رفيع بين الواقعية وعدمها. بالمقابل، رأى عدد من المعلقين المؤيدين له أن هذه فترة قصيرة جداً نظراً لحجم التحديات وأن على الجمهور تقبل درجة أكبر من "الواقعية". ولعل ما قاله محمد حسنين هيكل في مقابلة تلفزيونية في العاشر من نيسان/إبريل الماضي يلخص بشيء من الدرامية ما هو قادم : "أعتقد أنه سيجد مشاكل أمامه بحجم الدنيا والآخرة".
هنا يأتي دور حمدين صباحي، الوحيد الذي يمكن له قيادة المعارضة في مصر ما بعد الانتخابات، إن قرر أن يقوم بهذا الدور. فالأخوان أقصوا سياسياً ولا يمكن لهم القيام بهذا الدور من داخل النظام، والسلفيون المتذبذبون في المواقف والمتحالفون مع الإخوان سابقاً بما في ذلك حزب النور يؤيدون السيسي الآن. أما الحراكات الشبابية فهي ليست فقط متعددة ومفتتة وإنما بان الآن بوضوح أنه بإمكانها الحشد للتظاهر في ظروف محددة، ولكنها غير قادرة على القيادة أو إبراز قيادة يمكن للجمهور العام أن يصطف خلفها. هذا ليس حكماً قاسياً على هذه الحراكات. فقد بينت تجربة مصر والدول العربية الأخرى أنه لا بديل حتى الآن عن الحزب السياسي أو العمل المستمر الدؤوب مع الجمهور لغرض إيجاد قاعدة من التأييد تسعف في العمل السياسي وأغراضه المتعددة، وأنه من المتعذر صنع قيادات لها مصداقية في "الشارع" دون تاريخ نضالي سابق.
إن خشية السيسي لن تكمن فقط بعودة الإضرابات والمظاهرات والمطالبات الإصلاحية، فهذه لم تتوقف حتى الآن وإن كانت وتيرتها غير ثابتة. وقد يمنحه الجمهور بضعة أشهر أو أكثر لرؤية ما قد ينجز. لا أحد يعرف تماماً. لكن المطالبات ستتعاظم تدريجياً في غياب إمكانية الحلول السريعة. ولعل الخشية الأكبر للسيسي ومن يؤيده من النظام القديم هو العودة إلى المظاهرات المليونية التي أطاحت بمبارك ويمكنها أن تطيح بأية قيادة أخرى في مصر. هذا يبدو بعيداً الآن ويلزمه تراكم تدريجي في المطالب وإخفاق في تلبيتها، وتحالفات جديدة أو متجددة بما في ذلك مع قاعدة الإخوان الشبابية إضافة إلى شباب الحراكات. هذه كلها مهمات قادمة للمعارضة التي لا يوجد لها قيادة الآن توحدها. هنا يكمن "خطر" حمدين صباحي إن قرر أن يلعب هذا الدور، أو دفعته ظروف مصر الصعبة إلى قدر لا يترك له خيارات أخرى لها مصداقية.
هوامش:
- (1) راجع، جورج جقمان، ’خطر "الديمقراطية" في مرحلة البداية، الأخبار، 18 أيلول، 2013. https://www.al-akhbar.com/node/191491